وقع اختياري على هذا العنوان لأنه أحد أهم الإشكالات التربوية, فكثيرا ما يهتم الأهل بتنشئة أطفالهم على الصدق وذلك إما بحكاية قصص الصادقين والتي تحوي عظة أو "ثيمة" تبين الفرق بين عاقبة الصدق المنجية ونتيجة الكذب الوخيمة أو بربط واقع الطفل بهذه القيمة المثالية عبر مكافأة الصادق ومعاقبة الكاذب أو غير ذلك من الأساليب التربوية التي تهدف إلى إعلاء مفهوم الصدق بوصفه سِمة أخلاقية ضرورية لتماسك المجتمع وبناء الثقة بين أفراده؛ ولكن الإشكال يتبدى في تعامل الطفل مع تناقضات الأهل بين الأقوال والأفعال, وكذلك صعوبة تفريقه بين الصدق المحبب والصراحة الجارحة إضافة إلى تعسّر إدراكه الفارق بين الكذب المرفوض والدبلوماسية المطلوبة.
يؤكد بعض الأهل للطفل بأقوالهم على قيمة الصدق بينما تتنافى أفعالهم مع الأقوال, خاصة في حالة الشدة والانفعال حيث تختل الموازين بين النظرية والتطبيق مما يُلجئ الطفل إلى الكذب الدفاعي الذي يكفيه شدة العقاب ولا ينفيه من مكانته بين أهله, والأمثلة كثيرة فإذا ارتكب الطفل أمرا خاطئا دون أن يراه أحد ككسر المزهرية غالية الثمن أو سكب الحليب على السجادة الفاخرة يطمئنه أحد الأبوين بأنه لن يؤذيه إذا حدّث بالصدق فيعترف الطفل بأنه هو الفاعل فإذا بلطمة القسوة تأتيه على وجهه أو "شبشب" التقريع ينهال على ظهره, وفي أحسن الأحوال تذهب الأم وتروح وهي تلملم بقايا الزجاج المتناثرة أو يزبد الأب ويرغي وهو يأمر الخادمة بتنظيف السجادة دون أن يكف هؤلاء المنظّرين عن عزف الأنغام اللائمة للطفل والموبخة له, مما يرسم صورة كئيبة لا تُنسى ويرسخ معاناة نفسية لا تُمحى, ومن المسلّم به تربويا أن الفعل العاقل لن يكون له نفس تأثير رد الفعل لأن الحساسية المرتفعة لدى الطفل تجعله أكثر تأثرا بأفعالنا العاطفية وارتكاساتنا الانفعالية, علما بأن اعتراف الطفل بالخطأ ليس مدعاة لمكافأته فقد ترتبط لديه المكافأة بالخطأ لا بالصدق, لكن يكفي أن نتمالك أعصابنا ونعلم أن السجادة والمزهرية وكل ما نملك لا يعادل نفسية سوية لأطفالنا.
إذن هذه صورة تهز مفهوم الصدق لدى الطفل ولا شك أن ثمة صور أخرى موجودة أيضا وإن كانت أقل دراماتيكية, مثلا عندما يقرع الباب صديق يسأل عن الأب أو تتصل هاتفيا صديقة للأم فيُؤمر الطفل أن ينفي وجودهما مع أن الأب مستغرق برؤية التلفاز أو أن الأم تتنصت على الهاتف في غرفة أخرى, وحين تبرق أفعالنا بإشارات مخالفة لما نغرسه في عقول أطفالنا فإن كل دروسنا ومواعظنا عن القيم والمُثل تتبخر لأن الطفل يتعلم بالقدوة والتقليد أكثر مما يتعلم بالترغيب والترهيب. بالإضافة لهذه الصورة الدرامية وتلك التراجيدية يوجد بعض الصور الكوميدية كما يحصل عندما يأتي الجد ليقبّل الحفيد الصغير فينفر منه قائلا ببراءة: لا أحبك لأنك بدون أسنان! أو عندما تسأل الطفلةَ صديقةُ والدتها: ألستُ جميلة؟ فتقول لها: لا.. لأنك سوداء مثل الخادمة! وبالطبع فإن بعض هؤلاء الكبار الذين انتقدهم الطفل قد يضحكون, ولكن بعضهم قد ينعتون الطفل بعدم التهذيب أو يصمتون فينبري أحد الوالدين مقطبا ناهرا الطفل على قلة أدبه, والطفل المسكين لا ينطق لأنه لا يستطيع محاكمة هؤلاء "الأوغاد" الكبار الذين حببوا إليه فضيلة الصدق فإذا صدق أساؤوا له لفظا أو فعلا, والنتيجة في كل الحالات التي تتم فيها معاقبة الطفل على أمر ليس ذنبه وحده أن ترسبات الطفولة وتراكمات الماضي تغفو في اللاشعور ثم تصحو مستقبلا على شكل سلوكيات متناقضة وازدواجية صارخة دالة على اهتزاز الشخصية وعدم الثقة بالنفس.
تجدر الإشارة إلى الكذب الادعائي الذي يلجأ فيه الطفل إلى اختراع القصص الوهمية حول نفسه أو إعطاء معلومات خاطئة عما سئل عنه لتُكشَف كذبته بسهولة أو يحيك أي حبكة أخرى بهدف لفت انتباه الأهل عندما يوجهون عنايتهم لطفل آخر كمولود جديد أو حينما تنشغل الأم عن الطفل بالعمل أو الدراسة أو غيرهما, فهل يُعتبر هذا الشكل من الكذب دبلوماسية لا شعورية للفت الانتباه؟ ليس الكذب وسيلة الطفل الوحيدة الخاطئة للصراخ الصامت الذي مغزاه: أنا هنا, فقد يلجأ للسرقة وغيرها من الأفعال الشائنة, ولكن بما أن موضوعنا متعلق بالكذب فالسؤال الهام هو: كيف نجعل الطفل يفرق بين المواقف التي يُعد فيها الكذب مرفوضا وبين ذلك النوع من الكذب المسموح به شرعا أو المقبول عرفا والذي قد ينطبق على مسمى الدبلوماسية؟ وهو سؤال كبير حتى علينا نحن الكبار لكن بما أن التساؤلات مشروعة والإجابات مفتوحة أي لا نهاية للسؤال ولا للجواب في عالم متغير سريع فلا بد أن سؤالا أكبر سيظهر دون جواب نهائي أو حديّ وهو: هل دبلوماسية الأطفال وراثة أم بيئة؟
أستدعي بعض الأمثلة الطريفة من ذاكرتي كمحاولة للجواب على السؤال الأخير, فالمثال الأول هو عن طفلة بعمر خمس سنوات اعتادت أن تأتي مع والدها ووالدتها العربيين إلى المستوصف الذي يعملان به, فأصبحت كل الوجوه لديها مألوفة بما فيها وجه مديرة المستوصف التي سألتها ذات مرة: أي البلدين أجمل: هنا – تقصد السعودية – أم بلدك الأصلي؟ فقالت الطفلة: هنا أجمل بكثير! فسألتها المديرة: لماذا؟ فأجابت الطفلة: لأنك هنا يا طنط! وكان جوابا مدهشا للحاضرين جميعا, وأكد لهم أن الطفلة كانت نسخة عن والدها شكلا ومضمونا, فقد استطاع أن يكسب ثقة المديرة طيبة القلب خلال فترة قصيرة؛ والمثال الآخر عن طفل بعمر 10 سنوات انتبهت والدته أن إجابات أسئلة اللغة الفرنسية كانت مكتوبة في كراسته بخط جميل غير خط ابنها السيئ, فسألته إن كان هذا خطه, فأجابها: إنه خط معلمة اللغة الفرنسية, فسألته متعجبة: وهل المعلمة تكتب الإجابات لكل التلاميذ؟! فأجاب الطفل وعلى وجهه ترتسم ابتسامة خبيثة: لا.. هي تكتب لي فقط لأنها سألتنا عن أحب المواد لكل واحد منا فأجبتها إنها مادة اللغة الفرنسية, فأحبتني ولذلك جلست بجانبي وكتبت لي, فسألته الأم وهي تعلم الجواب: وهل أنت تحب الفرنسية حقا؟ فقال: لا بالطبع, ولكني أعلم أن المعلمة ستُسرّ إذا أجبتها هكذا وستحبني, فهمست الأم في داخلها: حقاً إن فرخ البط عوام, وبالطبع لم تكن تقصد أن الطفل يشبهها ولكنه يشبه والده رغم أنه لم يساهم في تربيته بحكم انفصالهما, فكيف سرى هذا الطبع من الوالد إلى الولد؟
ليس الجواب صعبا على الحالة الأخيرة إذا تذكرنا ما أكده علم الوراثة من أن الخبرات الوراثية تنتقل من الآباء للأبناء ومن الأجداد للأحفاد سواء كانت صفات خَلقية أو خُلُقية, ولكن كلنا يعلم أن الوراثة تعتمد على قوانين الاحتمالات, لذلك فقد لا تبدو الصفة الوراثية في الذرية الأولى ولكن ربما تظهر في الذرية العاشرة, ومن الواجب أن نعتمد على جهودنا التربوية في حال غياب الصفة الحسنة, لكن ما العمل إذا كنا نحن الأبوين لا نمتلك هذه الصفة أساسا؟ هل نترك هذا للمدرسة ليكتسبها الطفل منها رغم علمنا أن المعلمين ليسوا كلهم مربين أو بالأحرى ليسوا مهتمين بالتربية؟ وكيف نطمح لهذا إذا كنا محبطين من المدارس التي لم تعد تتقن مهمتها التعليمية –والدليل استعانة أغلبنا بالمدرسين الخصوصيين - فكيف بمهمتها التربوية؟
إذا كانت البراءة هي الصفة الأجمل في الطفولة فهل تعليم الطفل كيف يكون مرنا وحكيما - نوعا ما- يجعله يفقد جزءا من هذه البراءة الجميلة؟ من الضروري جدا أن ننظر إلى التربية على أنها إكساب الطفل جملة من الخبرات الحياتية والمعارف الأخلاقية كي يستطيع إنجاز مهمته كإنسان وليتمكن من الاندماج بالمجتمع لكن دون أن نشوه فرديته ونلغي اختلافه عن الآخرين, فمن حق كل منا أن يكون مختلفا عن غيره, وهذا الاختلاف هو أحد أسباب التنوع المطلوب في الحياة والذي يشكل أحد عوامل الجمال فيها, لذا يشار إلى التربية على أنها السير على خطين متوازيين وهما خط الكائن الحر المتفرد وخط الكائن غير المنفرد أو المنخرط بالمجتمع, وهذا الانخراط أو الاندماج غير ممكن دون بعض المرونة حيث يحمي الفرد حقه دون أن ينكر حقوق الآخرين, ولكن تحديد انتهاء حقوقك كبداية لحقوق الآخرين هو الحكمة في حد ذاتها, وإذا كان كل شيء ممكن بالتعلم لمن وهبه الله قدرا من الوعي, فهل من الممكن أن نتعلم كيف نكون دبلوماسيين أي حكماء ومرنين حتى نستطيع أن نكون قدوة لأولادنا في ذلك؟
هناك مواقف أباح الشرع فيها الكذب كالحرب وإصلاح ذات البيْن وإنقاذ مؤمن من ظالم فالإسلام لم يحرم الكذب مطلقا وهذا دليل على أنه يوازن بين المصلحة والمبدأ, وإن كان المبدأ هو ما يجب أن تكون له الأولوية, كما أن هناك فرقا أيضا بين الكذب والتورية فقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج هو وصاحبه أبو بكر رضوان الله عليه, ليتسقط أخبار المشركين في إحدى غزواته, فوجدا رجلا يرعى الغنم, فسألاه عن قافلة قريش, فأجابهما الرجل بما يعلم ثم سألهما: من أين أنتما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء, وعادا أدراجهما, فانتبه الرجل وأخذ يتساءل: من أي ماء؟! وكان قصد الرسول عليه الصلاة والسلام أنهما مخلوقان من ماء مهين, بينما فهم الرجل أنها قبيلة أو ما شابه, وهذا من حسن التخلص وسرعة البديهة وهما من أهم ميزات العربي الأصيل, فما المانع أن ننشئ أولادنا على الأصالة؟ وهل الأصالة إلا المرونة والحكمة وقد جُمعتا في كلمة واحدة؟!
نشر في مجلة الدبلوماسي الصادرة عن وزارة الخارجية السعودية